كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوَّؤوا الدار والإيمان قبل الهجرة {يحبُّون من هاجر إليهم} وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم {ولا يجدون في صدورهم حاجة} أي: حسدًا وغيظًا مما أوتي المهاجرون.
وفيما أوتوه قولان:
أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن.
وقد ذكرنا آنفًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر.
والثاني: الفضل والتقدُّم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم} بأموالهم ومنازلهم {ولو كان بهم خصاصة} أي فقر وحاجة، فبين الله عز وجل أن إيثارهم لم يكن عن غنى.
وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
أحدهما: «أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله: إِني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة.
ثم قال: من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئًا، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئًا، ثم أصبحي سراجِك، فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالى نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، وظن الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...} الآية»
.
أخرجه البخاري ومسلم في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة: أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء».
والثاني: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانًا وعياله أحوج إِلى هذا منا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهودًا، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} وقرأ ابن السميفع، وأبو رجاء، {ومن يُوَقَّ} بتشديد القاف.
قال المفسرون: هو أن لا يأخذ شيئًا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئًا أمره الله بأدائه.
والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.
فصل:
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما، فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال.
وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس، والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل: إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة.
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه.
وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله يقول: {ومن يوق شح نفسه} وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديَّ شيء، فقال: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلمًا، إِنما ذلك البخل، وبئس الشيء البخل وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «برئ من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وَقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة».
قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} يعني التابعين إلى يوم القيامة.
قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} أي: الذين جاؤوا في حال قولهم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا} فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حَظٌّ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحَّم عليهم، وكان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقًا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب.
وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات.
قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا} يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يقولون لإخوانهم} في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود {لئن أُخرجتم} من المدينة {لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم} أي: في خذلانكم {أحدًا أبدًا} فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {والله يشهد إِنهم لكاذبون} ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى {ولئن نصروهم} لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله ن في نصرهم، فلا يجوز وجوده.
وقوله تعالى: {ثم لا ينصرون} يعني: بني النضير.
قوله تعالى: {لأنتم أشد} يعني: المؤمنين أشد {رهبة في صدورهم} وفيهم قولان.
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل.
والثاني بنو النضير، قاله الفراء.
قوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعًا} فيهم قولان.
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين {في قرىً محصنة أو من وراء جُدُر}.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان {جدار} بألف.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، {جُدُر} بضم الجيم والدَّال.
وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة، {جَدَر} بفتح الجيم والدال جميعًا، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري، {جَدْر} بفتح الجيم وسكون الدال.
وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر، {جُدْر} بضم الجيم وإِسكان الدال.
{بأسُهم بينهم شديدٌ} فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله تعالى: {تحسبهم جميعًا} فيهم قولان.
أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفراء.
قوله تعالى: {وقلوبهم شتى} قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه.
قوله تعالى: {ذلك} يعني: ذلك الاختلاف {بأنهم قوم لا يعقلون} ما فيه الحظُّ لهم.
ثم ضرب لليهود مثلًا، فقال تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريبًا} وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا، على حكمه، أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية.
فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم.
والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد.
والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبًا، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر.
والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني قريظة {ذاقوا وبال أمرهم} بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم، فذاقوا وبال أمرهم {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلًا فقال تعالى: {كمثل الشيطان}.
والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان {إذ قال للإنسان اكفر} وفيه قولان.
أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد.
والثاني: أنه مَثَلٌ ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته.
ذكر أهل التفسير أن عابدًا من بني إسرائيل كان يقال له برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يومًا مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا؟ فقال الأبيض: وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم يجبه وكان لا ينفتل عن صلاته، إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصبًا يصلي على هيئة حسنة، فناداه ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يومًا، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولًا لا يفطر إِلا كل أربعين يومًا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يومًا، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبًا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادًا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلًا، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونًا فأعالجه؟ قالوا: نعم فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دُلنَّا، قال: انطلقوا إِلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال أعالجها؟ قالوا: نعم. فقال إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأنًا من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده.